عندما يتحدث خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن ينصت باهتمام كل من له علاقة أو يشده اهتمام بالشؤون السياسية والاستراتيجية حيثما كانت، وبالأخص العلاقات الخارجية للولايات المتحدة وأدوارها ... وبعد ذلك كل ما يدور من أحداث ذات تأثيرات سياسية أو استراتيجية على ظهر الكرة الأرضية وأحيانا في باطنها وأحيانا في غلافها الجوي وإطار فضائها الخارجي.
تزداد أهمية ما يكتبه وينطق به خبراء هذا المركز عندما يلتقون على مهمة كتابة التقرير السنوي الذي يحتوي على تنبؤات المركز مع بداية كل عام جديد... فما بالنا والعام الجديد هو عام انتخابات للرئاسة الأميركية تقترب فيها التوقعات من خط التأكيد بأن الجمهوريين «سيخرجون» والديموقراطيين «سيدخلون». ولا بد بالتالي من قراءة تنبؤات عرافي المركز بعناية ... والعناية لا تعني التسليم بما يقولون كما يفعل البعض. وما دمنا غير مضطرين لقبول كل ما يقول هؤلاء الخبراء أو رفضه برمته، فإن فرصتنا كبيرة في الاطلاع من خلال فصول هذا التقرير على ما سيكون عليه سيناريو الإدارة الأميركية القادمة التي سيشهد عام 2008 تكوينها وصنع الخطوط العريضة السياسية الداخلية والخارجية عندما تستلم السلطة والإدارة من الجمهوريين الذين قضوا في البيت الأبيض ثماني سنوات كان لهم في نصفها الأغلبية المسيطرة على مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب.
أول ما تكشفه قراءة تقرير التنبؤات هذا، التي تصدى لتحديدها وعرضها عرّافو السياسة والاستراتيجيا الأميركيون، أهم خبراء مصانع الأفكار، هو أن ما غاب عن عيون العرافين أهم وأخطر مما ظهر لهم وهم يحدقون ببصيرتهم في الكرات البلّورية السحرية للسياسات والاستراتيجيات المقبلة على العالم.
هم رأوا في الكرة البلّورية عن الآتي من تطورات في العام الجديد العراق .. طبعا، وهل كان يمكن أن يغيب الحدث الأكبر في البطانة الشعورية واللاشعورية للأميركيين منذ أحداث ايلول ـ سبتمبر 2001 ، أي قبل سنتين من الإقدام على غزو العراق واحتلاله؟ وهم رأوا إيران وبالتحديد رأوا حربا تشنها أميركا على إيران تنفذ ما هو حتى الآن تهديدات تعلو وتهبط لتعود متصاعدة ... وهكذا. ورأوا الصين ... وما كان يمكن أن يخفى عليهم المنافس الأضخم لأميركا على الصعيدين الاستراتيجي الإقليمي والاقتصادي العالمي في عصر بنَتْ الولايات المتحدة استراتيجية أمنها القومي على قاعدة رفضها القاطع لصعود أي منافس لها في العالم في أي مجال استراتيجي أو اقتصادي أو ثقافي.
ورأوا أوروبا، الحليف المنافس، الصديق المستقل التابع معا، الراضخ الهادئ الذي يتردد بين تأييد أميركا بلا شروط ومعارضتها بكل الشروط. ورأوا روسيا ولم يجدوا فيها ما يخيف سوى احتمالات تراجع الديموقراطية. ورأوا تركيا وكوسوفو وشبه القارة الكورية، كما رأوا أفريقيا وهي «تتقدم» نحو عهد يكون لها فيه قيادة أميركية عسكرية خاصة بها على غرار القيادة المركزية للشرق الأوسط والقيادة الاستراتيجية لشمال أميركا.
غير أن العّرافين الاستراتيجيين الأميركيين لم يروا في بلّوراتهم السحرية الشرق الأوسط.
العراق ليس الشرق الأوسط وان كان في الشرق الأوسط. والشرق الأوسط ليس إيران وان كان يضمها جغرافيا واستراتيجيا وكذلك ثقافيا وتاريخيا.
هذه هي المفاجأة .. المفاجأة.
ولما كان عرّافو مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن من أكثر رهبان الفكر السياسي الأميركي معرفة وقربا من «البلاط» ومن العسكر ومن علماء الدنيا والدين في عالم اليوم لا يمكن اتهامهم مجتمعين بالغفلة ولا وصفهم بالغباء. لا مجال هنا للسهو. لهذا فالأمر يتطلب وقفة لفهم معنى غياب الشرق الأوسط كمنطقة «متكاملة» لها مشكلاتها الجيوبوليتيكية الخاصة ولها انعكاساتها الاستراتيجية والسياسية على السياسة الأميركية بحكم ضخامة المصالح إذا لم نخض في التفصيلات الأخرى.
لابد إذاً من طرح الاعتبارات التي تجيز لعرافي واشنطن أن يقرروا ـ وبينهم مدير برنامج الشرق الأوسط في المركز الكبير ـ أن يتجنبوا الشرق الأوسط:
÷ إما أنهم يتوقعون أن ينحدر الشرق الأوسط على سلم الأولويات في جدول الأعمال الأميركي إلى أدنى الدرجات حتى لا يعود مرئيا.
÷ أو أن يكون هذا الانحدار قد بدأ بالفعل ، وهم، العرّافون، يتنبأون بأن هذا المسار المنحدر سيستمر.
÷ أو أن تقريرهم يبدأ هذا المسار لتنزيل أهمية الشرق الأوسط بعيدا عن المشكلات والقضايا العالمية الأخرى ... أي ان هذه هي بالفعل توصية العرافين للإدارة الأميركية التالية.
÷ وان الشرق الأوسط، وبسبب اشتماله على العراق وإيران، يظل محط التركيز الاستراتيجي الأمني (أي الأمني العسكري السياسي والثقافي والاقتصادي)، مرشح لانفجارات خطرة أعدت له ... وقرر الخبراء لسبب أو لآخر ترك الأمور على حالها دون تنبيه إلى ما يمكن أن يطرأ. بتعبير أوضح إن مصلحة أميركية على مستوى عال ـ أمنية ربما ـ تفرض عدم الخوض في ما هو آت. وليس هذا أمرا مستبعدا، فإن له في الحقيقة سوابق.
وفي كل الأحوال فإن إبعاد الشرق الأوسط عن تنبؤات عام 2008 يمكن أن ينبئ بشيء عن توقعات عام ,2009 أي عن سياسة الإدارة الأميركية التي ستكون لها السلطة اعتبارا من بداية .2009 وأول ما ينبئ به أن إدارة بوش الذاهبة (باعتبار أقوى الترجيحات) نجحت في تجميد الشرق الأوسط عند نقطة تتمثل في اجتماع انابوليس وتريد تسليمها على هذا المستوى إلى الإدارة التالية.
في بداية تقرير التنبؤات هذا ـ في السطرين الأولين من المقدمة ـ يتساءل «ماذا ستكون التحديات الأميركية الأمنية الأخطر لعام 2008 ؟» ويجيب: «إن من المستحيل أن نعرف بأي درجة من اليقين. قد نستطيع أن نتوقع الاستمرارية لا التغيير، ولكن نظما حاكمة تسقط وأسواقا تنهار وحروبا جديدة تبدأ وحوادث صغرى يمكن أن تخرج عن السيطرة. ومع كل ما نقوم به من محاولات لاستشراف المستقبل غالبا ما يعمينا عن أحد الجوانب تحول غير متوقع للأحداث. إن من المستحيل أن نعرف أية قضايا ستؤثر على الولايات المتحدة في العام المقبل، مع ذلك فإن تطوير استراتيجية طويلة الأمد يتوقف بالتحديد على تنبؤ كهذا».
التقرير إذاً يصدر لمهمة محددة هي «تطوير إستراتيجية طويلة الأمد». ولا تتردد المقدمة في الإشارة إلى أن الخبراء الذين وضعوا تقرير التنبؤات يوردون وقائع فيما يرون تصور حرب مع إيران باعتبارها وشيكة وخروجا سريعا من العراق وأفغانستان خلال عام 2008 باعتباره تطورا ناجحا مستمرا. وفي حين أن إيران والعراق وأفغانستان هي على قمة التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في العام الجديد، إلا أنها تقع على رأس قائمة طويلة. «غير أن الشرق الأوسط لا يأتي ذكره ضمن هذه القائمة الطويلة، مع أنها تضم ما هو، بالتأكيد، أقل أهمية وأدنى خطورة، مثل دورة الألعاب الاولمبية 2008 التي ستجرى في الصين وما إذا كانت ستفضي إلى تصاعد قلق الولايات المتحدة بشأن الصين(...)
وبينما يتناول التقرير الشأن الأوروبي باستفاضة تحت عنوان أكثر استفاضة «سنة أوروبا»، فإنه لا يذكر شيئا عن اهتمام أوروبا المتصاعد بالشرق الأوسط. ولا يهتم حتى بانعكاسات ذلك على الدور الأميركي. ويذكّرنا التقرير بانتخابات الرئاسة الأميركية مرددا ما سبق أن قيل بلا مبالغة آلاف المرات من قبل: «كمسألة نمطية فإن الانتخابات تسيطر عليها القضايا السياسية المحلية، ولكن المرجح أن الحربين المتواصلتين في العراق وأفغانستان ستستمران في لعب دور مهم في الخطاب السياسي القومي (الأميركي). وهنا أيضا تبدو الحربان كأنهما منفصلتان كليا عن تفاعلات التأثير والتأثر في الشرق الأوسط: من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني، إلى احتمالات حرب أميركية على إيران، والى احتمالات حرب إسرائيلية على سوريا أو مفاوضات بينهما، إلى الاحتمالات التي وصفتها مقدمة التقرير بهذه الكلمات: «ان نظما حاكمة تسقط وأسواقا تنهار وحروبا جديدة تبدأ وحوادث صغرى يمكن أن تخرج عن السيطرة».
هؤلاء العرّافون ـ نؤكد ـ ليسوا في غفلة ولا هم أغبياء.
لا بد أنهم يعرفون وباستطاعتهم أن يتوصلوا إلى استنتاجات صحيحة بأنه إذا كانت حرب أميركية على إيران في عام 2008 شبه مؤكدة فإن من شبه المؤكد بالدرجة ذاتها أن تقلب هذه الحرب أوضاعا كثيرة في الشرق الأوسط تتصل بالنظم الحاكمة وبالسلعة الاستراتيجية الأولى ـ النفط ـ الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة سترقب انقلابات اقتصادية قد تتخذ في بعض الحالات صورة انهيارات مالية في... الشرق الأوسط، وعلى نطاق أوسع عالميا، وان حربا أميركية على إيران لا يمكن أن تمر وإسرائيل تقف في ركن قصي يحيط بها هدوء من كل جانب. بل إن هذه الحرب قد تعني انهيار معاهدات علنية واتفاقات ضمنية بين إسرائيل وعرب الأنظمة الحاكمة أو ما يتبقى منها. كما أن حربا كهذه يمكن أن تجعل المصالح الأميركية الضخمة والمكشوفة في أراضي المنطقة ومياهها الإقليمية في متناول السخط الشعبي المباشر سواء تعبيرا عن الغضب ضد هذه الحرب أو ما سيكون تعبيرا عن وصول لحظة الانفجار بوجه الهيمنة الأميركية ورموزها وقواعدها ومصالحها.
كذلك فإن حربا أميركية على إيران في عام 2008 يمكن أن تُفاقم ما أصبح يسمى بمشكلة اللاجئين في الشرق الأوسط... خاصة أن الأشهر الأخيرة من عام 2007 شهدت تحولا لحرب العراق وفقا لمعظم الأدبيات الرسمية وغير الرسمية الأميركية إلى «مشكلة لاجئين». ولا يحتاج عربي في أي موطن كان إلى التذكير بأننا مرة أخرى بصدد فعل عرفه من قبل في قضية فلسطين التي أدرجت لعقود طويلة تحت صفة مشكلة اللاجئين (...)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفصل الأخير في هذا التقرير يحمل عنوان «تأثيرات أزمة اللاجئين العراقيين» (كتبه جو ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وأحد أكثر خبراء شؤون المنطقة صلة بالمصادر العربية الرسمية وغير الرسمية).
[[[
ليؤكد العرافون الاستراتيجيون الأميركيون أنهم ليسوا مجرد عرافين، يأتي الفصل بعد الأخير في تقريرهم بمثابة التوصية لسيد (أو سيدة )البيت الأبيض التالي بأنه «يتعين على الولايات المتحدة أن تصبح قوة ذكية تعيد الاستثمار في خير العالم. تقدم أشياء تريدها الشعوب والحكومات في جميع الدوائر في العالم ولكنها لا تستطيع الحصول عليها في غياب الزعامة الأميركية...
القوة الذكية هي الوسيلة التي تستطيع بها الولايات المتحدة أن تعود إلى تصدير التفاؤل والأمل والأفكار الكبيرة والحلول البراغماتية».
فلنعِ هذه الكلمات جيدا فإننا سنسمعها كثيرا تتردد على ألسنة سادة واشنطن الجدد الذين ستأتي بهم انتخابات 2008 في عام 2009.
*نقلاً عن صحيفة "السفير" اللبنانية